في عواصمنا العربية، درج الناس على سماع المسؤولين العرب يصفون القدس بأنها قدسنا واحدة غربية إسرائيلية، والثانية شرقية عربية ـ إسلامية، أسمى أمانيهم سماح الكيان الصهيوني للعرب والمسلمين بممارسة شعائرهم الدينية في الجانب الشرقي من القدس، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل تم تقسيم القدس الشرقية في أحاديثهم إلى شوارع، وبيوت، وطرقات، وأحياء، يهودية ومسيحية وإسلامية و....الخ.
هذه الأقوال التي يجرى تدعيمها من خلال الأكاذيب والأساطير الصهيونية، تصدت لها الباحثة المقدسية د. نائلة الوعري، في كتابها الجديد "القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية (1908 ـ 1948)"، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت، 2022).
يقدم الكتاب في محتوياته ومضامينه دراسة مُركزة تتمحور حول المرتكزات، والمقومات، والمؤهلات المادية والمعنوية التي امتلكتها مدينة القدس، بل تميزت فيها على جميع المدن ما مكنها من احتلال مكانة الريادة والصدارة واختيارها عاصمة فلسطين.
خيرًا فعلت د. نائلة الوعري، حين أهدت كتابها "إلى القدس.. مدينتي. عهداً... أن يستمر... الحب والعطاء...".
عالجت المؤلفة في الفصل الأول من كتابها "حاضنتها الجغرافية"، البنية الطبيعية أو الحاضنة الجغرافية التي احتضنت مدينة القدس، هذا بصفتها أحد المقومات الطبيعية الأساسية التي انفردت بها عن غيرها من المدن الفلسطينية، وبذلك شكلت مرتكزات قوية لدفعها لاحتلال مركز الريادة والصدارة بمسيرة حياتها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية وعاصمة سياسية في فلسطين.
وفي سبيل التعرف على حقيقة الموقع الجغرافي ودوره في دفع عجلة التقدم والازدهار والريادة الإدارية، والسياسية لمدينة القدس، عالجت الباحثة ذلك في ستة محاور: خصص المحور الأول لتوضيح تسمية القدس، وتشير د. نائلة إلى أن مسميات القدس اشتملت في "مجملها على ما يفوق الـ (٢٠) إسماً... [منها] يبوس.. داود... ".
أختلف هنا مع د. نائلة حول هذه المسميات، التي لم ترد خارج النصوص التوراتية. أما المحور الثاني فعرض موقع المدينة الجغرافي، وناقش المحور الثالث مسألة حدودها المادية والمعنوية وارتباطاتها الجغرافية، وخصص المحور الرابع لمناقشة مسألة الموضع أو المكان الذي ارتادته مدينة القدس، هنا تستند الباحثة إلى الرأى التقليدي والمتداول بين المؤرخين العرب من أن "الدراسات الأثرية تشير إلى أن موضع القدس الحديثة والمعاصرة يتقاطع إلى حد كبير مع نواتها الأولى التي بُنيت على يد القبيلة الكنعانية (يبوس) قبل نحو 3000 ق.م".
وهذا يخالف المسوحات الأثرية الحديثة من تواجد سكاني في محيط القدس يعود إلى 500 ألف عام، وتستمر آثار تواجد الإنسان في القدس طيلة العصور الحجرية القديمة، حتى نصل إلى العصور الحجرية المتوسطة، وتتمثل هذه الحضارة في بلادنا فلسطين بـ"الحضارة الناطوفية"، التي سميت كذلك نسبة، إلى واد النطوف، شمالي غربي القدس، والتي دامت نحو ستة آلاف سنة، اعتباراً من حوالي عام 12000 قبل الميلاد. أما المحور الخامس ركز في عرضه على المظاهر التضاريسية التي احتضنت مدينة القدس.بينما عرض المحور السادس لأهم الفعاليات الاستراتيجية التي جنتها مدينة القدس .
ناقشت الوعري في الفصل الثاني "تحصيناتها"، التحصينات التي تمتعت بها مدينة القدس العاصمة الرائدة فقد امتلكت المدينة تحصينات مادية ومعنوية، فالتحصينات المعنوية، هي التحصينات غير المادية والشواهد العمرانية المألوفة، وتقصد الباحثة "الاعتبارات الدينية". أما التحصينات المادية، وتنقسم إلى تحصينات عسكرية، والتي أنُشئت لتحقيق غايات دفاعية ومهام عسكرية، ومن أهمها السور والقواعد العسكرية والأمنية. وتحصينات مدنية، وتتمثل في هيئة العمران، والتموين، والمواقع المأهولة، والعمق الإقليمي.
ترى الباحثة أن امتلاك "مدينة القدس تحصينات مادية ومعنوية لا ينافسها فيه منافس من المدن الفلسطينية الكبرى".
وتضيف: فالتحصينات "تعد المقوم الثاني الذي أهَّلها لريادة المدن الفلسطينية واختيارها مركزاً إدارياً متقدماً للواء القدس الشريف إبَّان الفترة العثمانية ما بين (1908 ــ 1917)، والإدارة العسكرية البريطانية في تشكيلات بلاد العدو الجنوبية المحتلة ما بين (1917 ــ 1920)، وعاصمة فلسطين السياسية ما بين (1920 ــ 1948). وفي ضوء ذلك تمركزت في جنباتها مؤسسات الدولة الرئيسية ودوائر السيطرة والتحكم المدنية والعسكرية".
جاء الفصل الثالث "نشاطها العمراني"، لوصف وتحليل النسيج العمراني لعاصمة فلسطين، وهي الخصوصية المهمة التي تتميز بها الحواضر والعواصم عن غيرها من المدن، ولا تظن أن هناك مدينة فلسطينية قد تقدمت في نشاطها العمراني على مدينة القدس العاصمة، فظلت رائدة المدن الفلسطينية في هذا المسار، وتعالج الباحثة النشاط العمراني في أربعة محاور رئيسية٫ وهي: مرحلة الانطلاقة العمرانية (1917 ـ 1948)، ثم مرحلة الازدهار (1917 ــ 1948). أما المحور الثالث، فخصص للتعرف على الأحياء القديمة والناشئة في المدينة، بينما خصص المحور الرابع لعرض الخدمات البلدية.
أما الفصل الرابع "سكانها"، فقد درست الوعري وحللت النسيج السكاني، وتم التركيز فيه على حركة النمو السكاني التي انتابت القدس العاصمة؛ نتيجة لسيادة الأمن والاستقرار، وارتفاع معدلات الولادة وانخفاض الوفيات والهجرة الوافدة، بسبب المجاورة في رحاب الأماكن الدينية المقدسة، وحركة التغلغل الاستعمارية، والمقاومة الشعبية للاستعمار، واتساع سوق العمل والخدمات الجاذبة للهجرة الوافدة من المواقع المختلفة، وما كونته من بيانات سكانية جعلها رائدة المواقع الفلسطينية من حيث عدد السكان، وهي إحدى الخصوصيات التي تتميز بها العواصم عن غيرها من المدن.
خصصت الباحثة الفصل الخامس بعنوان "تشكيلاتها الإدارية وسيادتها"، لتتبع تشكيلات مدينة القدس الإدارية ودورها في دفع المكانة الريادية للمدينة إلى الأمام، فاعتبرت "توجهات الدولة أو السلطة المركزية في اختيار مدينة القدس مقراً لدوائرها وأجهزتها التنفيذية والممثليات الدبلوماسية والهيئات الدولية العاملة على أراضيها أحد المقومات الأساسية التي أهَّلتها لاحتلال مكانة الريادة في قائمة المدن الفلسطينية وعاصمة فلسطين السياسية". وأوضحت ذلك في محورين أساسين، أفرد الأول للتشكيلات الإدارية التي وضعت فيها مدينة القدس خلال الفترة ما بين (1908 ــ 1948). وخصص المحور الثاني لمعالجة مسألة السيادة وتم التركيز فيه على مجموعة الإدارات السياسية التي تعاقبت في السيطرة على المدينة.
في الفصل السادس تحت عنوان "إدارتها ومراكز القيادة والتحكم"، تستعرض الوعري مستويات الإدارة التي قامت بالإشراف على مدينة القدس والمناطق التابعة لها في فلسطين وشرق الأردن من خلال مراكز القيادة والتحكم والمنتشرة داخل حدود بلديتها في الفترة الواقعة ما بين (1908 ـ 1948) وأطرافها، وهي إحدى المقومات الرئيسية التي أهلته لاحتلال مكانة الريادة والتقدم وتولى مكانتها المرموقة في أوساط المدن المحلية والإقليمية والدولية" بل وكانت من الشواهد على تقدمها وريادتها".
وناقشت ذلك في خمس محاور أساسية، خصص الأول لعرض الإدارة العثمانية (1907 ـ 1917)، وأفرد الثاني للإدارة البريطانية (1917 ـ 1948)، وكرس الثالث للقيادة الفلسطينية (1908 ـ 1948)، وتناول الرابع، الإدارة الأردنية (1948 ـ 1949)، واستعرض الخامس، مراكز القيادة والتحكم أو الحاضنة الرئيسية لجميع الأنشطة الإدارية.
خصص الفصل السابع "الإجماع الشعبي المحلي"، لعرض وتحليل ومناقشة الموقف المحلي وموقف الشعب الفلسطيني في دياره المدنية والريفية والبدوية والمهجر من تقديم المدينة وإجماعه على مكانتها الحضارية وتقدمها كعاصمة سياسية وروحية لفلسطين. وفي سبيل ذلك التعرف على فعاليات الإجماع الشعبي، فقد عرضته الباحثة في ستة محاور أساسية: خصص الأول منها للنزعة القطرية، والتي عبر فيها الشعب الفلسطيني عن تعلقه واحترامه وتقديره للمدينة وريادتها. بينما عالج المحور الثاني مسألة شد الرحال والسفر، في حين خصص المحور الثالث للأعطيات والتبرعات النقدية والعينية، أما المحور الرابع فخصص للانتخابات والاختيار المنظم الذي قام به الشعب الفلسطيني عندما أجمع عبر صناديق الاقتراع، وغيرها من أساليب الاختيار على ريادة المدينة للبلاد الفلسطينية. وخصص المحور السادس، لمسألة الحداثة والتي تقدمت فيها مدينة القدس بما أدخلته من بنى حضارية جديدة مادية ومعنوية؛ ما جعلها مركز جذب وإجماع للشعب الفلسطيني.
تناول الفصل الثامن "الإجماع العربي والإسلامي"، المقوم الثامن من المقومات الأساسية التي أسهمت في دفع مدينة القدس لتولي مكانة الريادة والقيادة على كافة الأصعدة المحلية، الإقليمية والدولية، وغدت معها عاصمة فلسطين الإدارية والسياسية والمعالم الروحية. وفي سبيل التعرف على حقيقة الإجماع العربي والإسلامي نحوها وفعالياته الميدانية، فقد تم عرضه في محورين أساسيين خصص المحور الأول للإجماع العربي، بينما كرس المحور الثاني عرض وتحليل موقف العالم الإسلامي.
أما الفصل التاسع "الإجماع الدولي"، فخصص عرضه لمناقشة الموقف الدولى وعلاقاته بالدولة العثمانية وحكومة الانتداب البريطاني والمجلس الإسلامي الأعلى ودورهم في اعتماد القدس عاصمة سياسية وروحية في فلسطين.
وفي نهاية الكتاب توصلت الباحثة للعديد من النتائج المتعلقة بموضوع الدراسة والمقومات الأساسية التي استندت عليها مدينة القدس في تقدمها السياسي، واختيارها عاصمة فلسطين السياسية. ويتضمن الكتاب ملاحق تتكون من خرائط ووثائق وجرائد وصور.
على مدى 529 صفحة من القطع الكبير، واعتمادًا على عشرات المصادر والمراجع، جاء هذا الكتاب في إطار مسيرة البحث الجاد للكتابة التاريخية المتخصصة التي تقوم بها د. نائلة الوعري في تاريخ فلسطين الحديث.
Comments