بقفاز من حرير تسللوا إلى معترك الحياة اليومية فى القدس وعكا ونابلس وحيفا، لم تسلم من مخالبهم لمحة من تفاصيل مختلف الجوانب الحياتية اقتصادية كانت أم اجتماعية. تحرشوا بأراضى القدس عبر الإشراف على عمليات اغتصابها لصالح اليهود والعمل على انجاح موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وقد نُفذ مخططهم الشيطانى عبر ثغرات عدة أهمها فساد الجهاز الإدارى للدولة العثمانية.يشهد على ذلك سجلات المحاكم الشرعية فى القدس ومحفوظات أرشيف بلدية نابلس التى اطلعت عليها د.نائلة الوعرى وروتها لنا عبر كتابها “دور القنصليات الأجنبية فى الهجرة والاستيطان اليهودى فى فلسطين 1840- 1914”. الكتاب الذى قال عنه الكاتب جهاد الخازن لو اخترت أهم كتابين عن تاريخ القضية الفلسطينية لاخترت كتابى نائلة الوعرى «دور القنصليات الأجنبية فى هجرة واستيطان اليهود فى فلسطين» وكتاب «موقف الولاة والعلماء والأعيان والإقطاعيين من المشروع الصهيوني».
فى عام 1858 بعث وزير الخاريجية البريطانى إلى القنصل
العام فى القدس رسالة يقول له فيها: «إنّ حكومة بريطانيا تحاول جاهدة تكريس الوجود البريطانى فى القدس، وبالتالى فى المدن الأخرى لحماية مصالحها الحيوية ورعاياها من الطائفة اليهودية، وعليكم القيام بواجبكم لحماية اليهود الوافدين إلى فلسطين بذريعة الرحلات المقدسة التى سمح لهم بها وأن تحولوا دون قيام الباب العالى بمنعهم من الإقامة وهذا واجب عسكرى تسألون عنه». أوجزت تلك السطور مجمل الدور القنصلى البريطانى بالقدس وأهداف خروجه عن إطاره الدبلوماسى المعهود.
فالتحرك الدبلوماسى البريطانى فى القدس كان يسير وفق خطط إستراتيجية بعيدة المدى، فحتى تكون بريطانيا على بينة بما يجرى من أحداث فى المدن الساحلية الفلسطينية، حرص القناصل البريطانيون فى القدس على إنشاء مكتب تمثيلى قنصلى فى حيفا وعكا ويافا، وفى أحيان كثيرة تمّ تكليف نوّاب قناصل أو سكرتير أوّل من العرب، وكانت مهمة هؤلاء النواب مراقبة الموانئ البحرية التجارية فى كل من عكا وحيفا ويافا ، حيث تشير سجلات المحاكم الشرعية فى كل من القدس وعكا إلى ما كانت طالبت به القنصلية العامة فى القدس من القضاة الشرعيين فى هذه المدن، لاستئجار مقار لنواب القناصل، على نحو يكشف جدية بريطانيا فى الإشراف على الموانئ التجارية؛ ليس من الجانب التجارى فحسب، بل من منطلق عسكري. ويذكر أنّ وكلاء القناصل فى كل من عكا وحيفا ويافا وصفد كانوا قبل إنشاء القنصلية البريطانية فى القدس 1838، يتبعون القنصل العام لبريطانيا فى بيروت، إلاّ أنّ المصلحة العليا لبريطانيا والأحداث الدولية هى الباعث لإقامة القنصلية العامة فى القدس؛ لأهمية المدينة أولاً، ثمّ لحماية الأماكن والمصالح الدينية لبريطانيا فى المنطقة.
واستفاضت د. نائلة فى شرح المستويات المختلفة للنظام القنصلى ومراتب القناصل كالقنصل االفخرى، فضلا عن الحصانات والامتيازات الممنوحة لهم كالحصانة الشخصية والإعفاء من الضرائب والتفتيش الجمركى. لقد كان هذا النظام بمثابة المنصة التى انطلقت منها الدول الأوروبية لتحقيق أطماعها بأرض فلسطين على نحو ما تجلى بصفحات الفصل الأول من الكتاب والذى حمل عنوان “النظام القنصلى فى فلسطين 1840-1914” وجاء كتأصيل لكيفية توظيف الدول الأوروبية الاستعمارية لنظام الامتيازات والتمثيل القنصلى لاختراق الدولة العثمانية وبلوغ مآربهم.
فى مجال بيع الأراضى كان لقناصل بريطانيا دور بارز فى التدخل والإشراف على معاملات بيع وشراء الأراضى، لدرجة أن بعضهم أضحوا تجارا وملاك أراضى بل مقرضون أموالاً للأهالى فنائب القنصل البريطانى بتروشيلى فى حيفا تحوّل إلى مالك للأراضى وتاجراً لها، وأقام علاقات وطيدة مع الفلاحين من خلال إقراضهم للمال بالتسليف وأخذ المستندات اللازمة عليهم. وقد ترتب على هذا الأمر نقل ملكية مساحات كبيرة من الأراضى إلى اليهود والأجانب حتى غدت ملكية اليهود مسألة محسومة.
كذلك استطاع القنصل البريطانى الأول فى القدس المستر (وليم يونج الذى تولى مهامه فى العام 1839 إلى العام 1845) أن يؤمن لنفسه راتباً خاصاً ويفتح له حسابات مصرفية فى عدة بنوك عثمانية وأجنبية وأن يرجى منها فائدة بنكية لكى يستفيد ويستطيع أن يقوم بمهامه على أكمل وجه، وحذا حذوه كثير من القناصل الأوروبيين ومن أبرز القناصل الذين تعاقبوا على وظيفة قنصل عام، بعد يونج القنصل جيمس فن الذى لعب دورا خطيراً فى التدخّل فى شئون السكان الفلسطينيين خلال فترة عمله كقنصل بريطانياً فى الفترة من 1845 – 1862.
والأخطر منهم جميعا السيد تمبل مور الذى تولى عمله فى الفترة من 1863 وحتى 1890، حيث استخدم كامل الامتيازات الممنوحة له للتدخل من أجل تثبيت ملكية “جمعية مراسلى الكنيسة الإنجليزية فى فلسطين “ والتى كان من أهدافها مساعدة اليهود فى شراء الأراضى.
كما كانت البيوعات بين اليهود مع بعضهم البعض تتم عن طريق القنصلية البريطانية بيافا. وقد زادت بيوعات الأملاك غير المنقولة فى مطلع القرن العشرين ما بين اليهود والأجانب فى قضاء يافا، بعد أن تجذّروا فى المدينة وضواحيها وزاد عددهم إلى نحو ستة آلاف نسمة. وقد دلّت سجلات محكمة يافا الشرعية على الحركة التجارية النشطة فى بيوعات العقارات التى كان يشرف عليها مجلس قومسيون المبيعات بقضاء يافا ، كما دلّت بعض الوثائق على أنّ قناصل الدول الأجنبية قد نشطوا فى امتلاك الأراضى والعقارات فى المدن والقرى الفلسطينية.
وسار قناصل فرنسا على ذات الدرب، حيث وسّعت القنصلية الفرنسية من نشاطها مع مرور الزمن، وقدّمت هذه القنصلية دوراً لافتاً للنظر، حيث أسدت خدمات جلّى وقـيّمة لليهود وساعدتهم بقوّة على شراء الأراضى بحجج واهية من أبرزها ما أشارت إليه سجلات المحاكم الشرعية فى كل من القدس ويافا بشكل عام، فقد حاول قناصل فرنسا شراء أراضٍ تحت أسمائهم، وبحجة أنّ عدداً من الرعايا الفرنسيين هم بحاجة لشراء أراض لإقامة مصالح اقتصادية ودينية عليها، ثمّ سربت هذه الأراضى إلى اليهود؛ فقد كان قنصل فرنسا فى يافا (فليير) وكيل شركة سفن فرنسية، قد اشترى من الفلاحين سدس قرية الخضيرة وباعها لأشخاص يهود عام 1879، وهى الأراضى التى أصبحت جزءاً من مستوطنة الخضيرة.
أقام الفرنسيون لهم فى يافا قنصلية، وكذلك فى مدينتى اللد والرملة، وكانت لهاتين القنصليتين رسالة خاصة تتعلق بالبعد الاقتصادى ومراقبة حركة السلع والبضائع هناك ،وقد عمد القناصل الفرنسيون إلى تسجيل نشاطاتهم وحجج البيع والشراء بواسطة المحاكم الشرعية لإضفاء مصداقية لعملهم.
استفزاز ديني
لم تقتصر الأدوار المشبوهة لقناصل الدول الأوروبية على المجالات الاقتصادية والاجتماعية فقط، بل لقد تعدت الأسوار الدينية عبر ممارسات استفزازية لمشاعر المسلمين كمحاولة القنصليات منع أذان الفجر، بحجة أنه يزعج السكان غير المسلمين، وتوفير القنصل البريطانى العام فى القدس دعما ماليا لبعض المشاغبين المحليين لإثارة فتنة فى المدينة، وذلك وفق وثيقة خاصة من ممتلكات آل النمر إحدى أهم العشائر الفلسطينية.
كذلك عنى القناصل الفرنسيون الذين تعاقبوا على إدارة شئون قنصليتهم فى القدس ودمشق وبيروت بالجانب الدينى التبشيري، وذلك من خلال إقامة المدارس الفرنسية والإرساليات مـمّا جعل لهم حضوراً فى الحياة المدنية الاقتصادية والاجتماعية على نحو مميز، وهذا ما تظهره ملفات وسجلات المحكمة الشرعية فى مدينة القدس. ونجح الفرنسيون فى إجبار الدولة العثمانية على منحهم قوّة الامتيازات التى وفرتها معاهدة عام 1535، واستغلوا هذه المعاهدة ليعيثوا فى الأرض فساداً فى مجالات الحياة المختلفة، وقد بدا ذلك واضحاً وجلياً فى العديد من الوثائق العثمانية المتبادلة بين الفرنسيين والباب العالي.
التنقيب عن الآثار
إنّ أبرز وأخطر ما قامت به بريطانيا من خلال قنصليتها فى القدس وبمساعدة قنصلها تمبل مور كان إقامة “جمعية التنقيب عن الآثار فى فلسطين” تلك الجمعية التى كانت لها سلسلة من المهام تصبّ جميعها فى مصلحة إقامة اليهود فى فلسطين ووجودهم فيها، لقد مارس تمبل مور صلاحياته الواسعة على مستوى فلسطين بأكملها فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، محاولاً دعم النشاط اليهودى فى مختلف أشكاله والوثائق المحفوظة فى الأرشيف الصهيونى فى القدس تحت الأرقام والتقارير المدرجة فى سجلات المحاكم الشرعية فى مدينة القدس، تعكس بوضوح ما فعله قناصل بريطانيا تجارياً وزراعياً وصناعياً وعسكرياً لخدمة مصالح بريطانيا. وإذا جاز لنا أن نحيط أكثر بالدور القنصلى لبريطانيا فى القدس، فسوف نجد أنها سمحت للطوائف الدينية اليهودية بالاستفادة من حقّ الحماية البريطانية، وسهّلت لهم ضمانات وحصانات قانونية وأن يحاكموا أمام محكمة قنصلية، وأن يعفوا من الضرائب كذلك، فقد كشفت بعض الوثائق التاريخية الموجودة لدى محكمة القدس الشرعية ومحكمة نابلس الشرعية عن قيام القنصل البريطانى العام فى القدس بتقديم اقتراح إلى السلطان العثمانى يطلب فيه السماح لليهود بعرض تظلّمهم إلى السلطات عبر القناصل البريطانيين، وإن كان هذا المطلب قد رفض فى حينه، إلاّ أنّ القنصلية البريطانية بقيت تعمل من أجل حماية رعاياها من اليهود البريطانيين فى فلسطين، وممن هم لجأوا إليها لمنحهم جوازات سفر بريطانية ومساعدتهم على المجيء إلى الأراضى المقدسة.
Comments