top of page

القدس في المحفوظات الملكية المصرية

د. نائلة الوعري


يسعدني أنْ أقدم للقراء في عرض تاريخي لكتاب متخصص صدر مؤخرا للدكتور المؤرخ جوني منصور ابن حيفا البار الصامد في مدينته الجميلة حيفا والعاشق للقدس، كتاب “القدس في المحفوظات الملكية المصرية”. وهو كتاب يعرض في مضامينه حقبة تاريخية من مسيرة مدينة القدس الحضارية في العصر الحديث، وذلك خلال الفترة الواقعة ما بين1831-1840م وقد شرفني الزميل الدكتور جوني بكتابة المقدمة التاريخية لهذا الكتاب والذي أعتبره من اهم الكتب المتخصصة عن فترة حكم محمد علي باشا لبلاد الشام تركيزا على مدينة القدس .

اعتمدَتْ مخطوطةُ الكتاب في صياغة مضامينها ومحتوياتها على المادّة الخاصّة بمدينة القدس والمناطق التابعة لها الواردة في الكتاب الشامل الذي صدّره المؤرخ أسد رستُّم أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بالجامعة الأمريكية ببيروت والصادر تحت عنوان “المحفوظات الملكية المصرية بيان بوثائق الشام وما يساعد على فهمها ويوضح مقاصدها “وقدّمه في عرض مُركّز لمضامين الوثائق المصرية المحفوظة في خزائن الأرشيف والملفات التابعة لقصر عابدين الملكي، وتعود للفترة الواقعة ما بين1810-1840م وتشتمل على ثلاثة أقسام وهي “سراي عابدين الملكية” و”الدفتر خانة المصرية” و”سجلات القضاء الشرعي”.

ad

وإنّ ما قدّمه رستم في إصداره الرّائد وعلمه الموسوعي المؤلّف من أربعة أجزاء عام 1940م قد شغل وما زال يشغل حيّزًا مُهِمًّا في رفوف المكتبة العربية لا ينافسه في مكانته وحيويته المتخصصة منافس حتى اليوم. ولا نظن أنّ هناك باحثًا متخصصًا في تاريخ مصر وبلاد الشام الحديث يمكن أنْ يتجاوزَ أو يُهملَ ما يعرضه من مادة تفصيلية أو ببليوغرافية للوثائق المحفوظة في القصر الملكي المصري والدوائر الرسمية التابعة لها والتي تؤرّخ للعلاقات التي انتظمت ما بين مصر وبلاد الشام منذ عام1810م وما رافقها من تطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية بلغت ذروتها في الحملة العسكرية التي أرسلها والي مصر محمد علي باشا على بلاد الشام عام1831م بقيادة ابنه إبراهيم باشا، ما أدّى إلى خروجها من يد الدولة العثمانية حتى انسحابها تحت ضغط التحالف الدولي المُعارض لتحرّكاته العسكرية عام1840م.

وتُركز المحفوظات على فترة الولاية والتي استطاع فيها محمد علي باشا الألباني الأصل مؤسِّس الأسرة الملكية العلوية من الوصول إلى كرسي الحكم في ولاية مصر ومن ثمّ تثبيت نفسه في حُكمها مُستغِلّاً في ذلك ضعف الدولة العثمانية من ناحية واضطراب أحوال مصر من ناحية ثانية في ظلّ حكم المماليك.

وبالرّغم من اضطراب أحوال مصر إلّا أنّها كانت تُعَدُّ أغنى ولايات الدولة العثمانية من حيث الدخل، وإنْ تسلط المماليك عليها وسوء إدارتهم وسياستهم المالية والضريبية التي أنهكت كاهلهم واستحواذهم على خيراتها وضعفهم في مواجهة الحملة الفرنسية بقيادة نابليون1798م قد ولّدَ لدى الشعب المصري موجةً عارمة من الكراهية، وبذلك كانت التربة الخصبة التي زرع فيها محمد علي باشا بذور حكمه فيها أو الموجة العالية التي ركبها في الوصول إلى سُدّة الحكم وإزالة حكم المماليك دون عودة. فتقرّب ابتداء من الشعب وقياداته المحلية ومشيخة الأزهر وهو ما حفّزهم على مراسلة العاصمة اسطنبول للمطالبة بتنصيبه على كرسي الولاية وتثبيته فيها والحرص على عدم نقله منها في إطار حملة التنقلات التي كانت الدولة العثمانية تُجريها في ولاياتها تلافيًا للتسلط وظلم الرعية وإقامة علاقات ودية مع السكان تُفضي إلى التمرد والاستقلال.

وفي ضوء ذلك استطاع محمد علي باشا أنْ يتحوّل من ضابط صغير جاء إلى مصر في إطار الحملات العثمانية العسكرية لطرد الحملة الفرنسية من مصر إلى باشا استحق معها حكم الولاية والإمساك بكرسيها حتى وفاته عام1849م. واستطاع بحنكته السياسية زرع نواة الدولة المصرية الحديثة ووضع أسس الانفصال عن جسم الدولة العثمانية معتمدًا في ذلك على دخلها الغزير وقوة جيشها الذي بناه وفق أحدث النظم الأوروبية وخاصة الفرنسية ومجاراته للسلطة الحاكمة في اسطنبول

وتتضح أبعاد العمل الموسوعي الذي أنجزه رستم عام1940م في البيانات التي يقدّمها لجمهور الباحثين والمهتمّين والقرّاء ليس في نسقها الرسمي وحسب بل في تسلسلها الزمني وشموليتها وموضوعيتها والذي يعكس إلى حدّ كبير اهتمام ولاية مصر منذ أنْ وضع واليها المؤسس محمد علي حجر الزاوية في بناء الدولة المصرية الحديثة عام1805م وحتى أفول نجم أسرته عن حكمها عام 1952م في حفظ الوثائق وترتيبها بكلّ ما فيها دون زيادة أو نقصان كي يسهل الرجوع إليها للعمل بما فيها واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها.

وقد أشاد رستم في مقدّمة عمله الموسوعي عندما وصفها قائلاً:”هذا بيانٌ بجميع وثائق الشام الموجودة في المحفوظات الملكية المصرية والتي تعود إلى عهد العزيز محمد علي الكبير، جعلته دليلاً للمؤرخين الذين يرغبون في درس الحقبة المجيدة من تاريخ الأقطار العربية، مُلخِّصًا هنا ومُلَمِّحًا هناك وناشرًا في موضع آخر بعض النصوص بكاملها، متوخيًا في جميع ذلك المحافظة على مضمون كلّ نبذة. وإني أنصح لمن يريد التدقيق والتعمُّق أو الإسهاب أنْ يرجع إلى النصوص الأصلية فعندها وحدها الخبر اليقين”.

وعملاً بنصائح رستم التي قدّمها عمَدْنا أثناء دراساتنا المتخصصة بشأن فلسطين عامّة والقدس خاصّة إلى عقد مقارنات دقيقة ومُفصّلة بين ما جاء في المحفوظات الملكية ومصادر فلسطين الأولية المتزامنة أو اللاحقة لفترة الحكم المصري في بلاد الشام1831-1840م وفي مقدّمتها سجلات المحاكم الشرعية ودفاتر الأوقاف والطابو العثمانية فيما يتعلق بالقضايا الحساسة كمداولات مجلس الشورى في القدس ومراسلاتها الحثيثة بين حكومة دمشق المحلية-حكمدار ايالات الشام-المكلفة بإدارة جميع ولايات بلاد الشام وقصر محمد علي باشا وحكومته المركزية في القاهرة بشأن مطالب الثري اليهودي وعضو البرلمان البريطاني السير موسى منتفيوري لتبليط زقاق البراق وشراء الأراضي واستئجار المباني من جانب القناصل الأوروبيين في مدينة القدس والتمرّد الشعبي على السلطة الحاكمة عام1834م وغيرها من المدن الساحلية قد جاءت متطابقة ومنسجمة مع بعضها البعض الأمر الذي يرفع من مستويات موضوعيتها والثقة في مضامينها.

وباختيار الدكتور جوني منصور لموضوع القدس في الوثائق المصرية ميدانًا للدراسة والبحث في حقبة زمنية محددة الإبعاد قوامها فترة الحكم المصري لبلاد الشام1831-1840م والتي تعتبر أهم المحطات الفاصلة في تاريخ مدينة القدس والمناطق التابعة لها يكون قد أصاب الهدف في أدقّ تفاصيله وحقّق قدرًا كبيرًا من الغايات والأهداف التي يتطلّع إلى تحقيقها.

وإن أسلوب المعالجة الراسية التي ذهب إليها الدكتور جوني منصور تقف على نقيضٍ تام من الأُفقية التي جنح إليها العديد من المهتمين بتاريخ بلاد الشام بما فيها فلسطين خلال فترة الحكم المصري1831-1840م، ومن بينهم الدكتورة لطيفة سالم في دراستها “الحكم المصري في الشام1831-1840م” والصادرة عن مكتبة مدبولي في القاهرة عام1999م والدكتور خالد صافي “الحكم المصري في فلسطين1831-1840م” الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام2010م، ووقع الاختيار مدينة القدس بصفتها إحدى المدن الشامية الواردة بكثافة في المحفوظات الملكية مصدر الرئيس للدراسة.

وتتجلّى دقّة الأهداف التي أصابها الدكتور جوني منصور وحقّقت العديد من النتائج في اختيار مصدر البيانات التي صدرها رستم في حين تمثّل الهدف الثاني في اختياره لمدينة القدس وما يتعلّق بها من وثائق في الأرشيف الرسمي المصري لتسليط الضوء على تاريخ مدينة القدس بصفتها إحدى المدن الشامية بعامّة والفلسطينية بخاصّة والتي تتمتّع بمقدرات مادية ومعنوية قلّ نظيرها في بلاد الشام، وهو ما أهلها لأن تكون عاصمة العالم الروحية ونقل صلاحيات من مدينة عكا العاصمة الإدارية والعسكرية لولاية صيدا إليها، بالرغم من دورها في إدارة المقاطعات الوسطى والجنوبية من بلاد الشام وقيادتها الموفّقة لقافلة الحاج الشامي من دمشق إلى الحجاز وإفشالها لحملة نابليون على الشام عام1799م عندما تصدّت لها بكلّ جرأة وبسالة ومن ثمّ اعتمادها عاصمة سياسية لجميع المقاطعات الفلسطينية.

أمّا الهدف الثالث فيتمثّل بوضع يده على أهمّ حقبة زمنية في مسيرة فلسطين التاريخية بعامّة وعاصمتها القدس بخاصّة نظرًا لِمَا شهدته من تحوّلات جذرية في جميع المجالات ومن أبرزها التحوّلات السياسية والتي تجلّت في سيطرة الحكم المصري على المدينة في الأيام الأولى من الحملة العسكرية عام1831م وجنوح إبراهيم باشا القائد العام للحملة المصرية على بلاد الشام باتخاذها مقرًّا إداريًّا مُتَقَدِّمًا تتحصّن في أعالي الجبال ونقل كافة الصلاحيات الملقاة على عاتق مدينة عكا إلى مدينة القدس بصفتها أهم مدينة مقدّسة في بلاد الشام وعاصمة العالم الروحية وتتمتّع بمُقَدِّرات إستراتيجية وعسكرية طبيعية وبشرية أفضل ممّا هي عليه في عكا بالرغم من تصدّيها للحملة الفرنسية وإفشالها لحصار نابليون1799م وإيقافها للجيش المصري في حصار مرير استمر ل(6)أشهر متتالية ولهذا بدأت ملامح التقدُّم الإداري للمدينة بالتقدُّم والاستحواذ شيئًا فشيئًا.

وتظهر أهمية الحقبة التاريخية التي عالجتها المحفوظات الملكية باعتبارها إحدى المحطات الفاصلة في التاريخ إزاء ما انتابها من تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية عملت على إسدال الستار على قطاع واسع من النظم الاقتصادية والاجتماعية التقليدية ومن بينها نظام الإقطاع بشقيه العسكري والاجتماعي، وبات على النظم التقليدية أنْ تتنحى جانبًا أمام التطورات الرأسمالية التي اجتاحت العالم بفعل تدفُّق منتجات الثورة الصناعية إلى المنطقة عبر ميناء يافا وتحوّل المدينة من اقتصاد الخدمات القائمة على خدمة الحجاج والزوار والأماكن الدينية المقدّسة إلى وسيط تجاري نشط يعمل بين مناطق الإنتاج في فلسطين وشرق الأردن والأسواق الأوروبية والمساهمة في حركة الاستيراد، ما أدّى إلى انهيار الطوائف الحِرفية التي ظلّت تُكبِّل الاقتصاد وقطاعاته الحِرفية والصناعية والتجارية والخدماتية. ولم يتوان عن إدخال مجالات الثورة الصناعية بما فيها الآلات فكانت القدس أوّل مدينة في بلاد الشام تحظى ببناء طاحونة قمح تعمل بطاقة الرياح لتزويد الجيش المصري بالدقيق وما تزال مشاهدها الأثرية بادية للعيان، وتُعرف باسم”طواحين الهوى” حتى اليوم.

كما عمدَ إلى التدقيق في قيود وسجلات الأراضي بما فيها الأوقاف إيذانًا بإصلاحات ضريبية غير معهودة. فألغى ضريبة الغفارة التي تقاضتها أسرة أبو غوش من الحُجّاج والمسافرين على طريق يافا- القدس مقابل حمايتهم من اللصوص وقطاع الطرق. وشجّع على الزراعة وإصلاح الأراضي المُعَطّلة والموات. وحارب الاحتكار وفتح الباب على مصراعيه أمام حركة الاستيراد والتصدير.

أمّا على الصعيد السياسي فقد لعب الحكم المصري دورًا مُهِمًّا في رسم صورة المسيرة التاريخية لمدينة القدس بمستوياتها المحلية والإقليمية والدولية التي واكبت مسألة الحملة المصرية على بلاد الشام أو ما أطلق عليه في المحفوظات والمصادر المحلية “المسألة السورية “. وفي نفس السياق فقد غدت المدينة إحدى الميادين التي رأت فيها الإدارة المصرية ميدانًا للمناورة مع القوى الاستعمارية المعارضة لها في احتلال بلاد الشام والتخفيف من ضغوطها السياسية والعسكرية لحملها على الانسحاب، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمامها للتغلغل الاقتصادي والاجتماعي والتبشيري في المدينة قبل عودة السلطنة العثمانية. وبذلك وضعت القاعدة الأساسية لما بات يُعرف بـــ “الحروب الصليبية السلمية “وهي مجموعة الأنشطة الاستعمارية التي شنّتها الدول العظمى على مدينة القدس بالعمل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بدلاً من قعقعة السلاح كما حصل في فترة العصور الوسطى.

 وفي خضم الحروب الصليبية السلمية وتسلُّل القوى الاستعمارية في ثنايا مسيرتها التاريخية نجحت الدول الاستعمارية في زراعة النواة الأولى للمشروع الصهيوني الذي استهدفها وما زال جرحها النازف في الوقت الحاضر شاهدًا على ذلك. وتزامنت انطلاقتها مع قدوم الحملة المصرية وتكللت أعماله بالنجاح من يوم لآخر محفوفة بالرعاية الاستعمارية التي حرصت على مواجهة الحملة وإجبارها على العودة من حيث أتت وإفشال مخططاتها وإصلاحاتها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية الطموحة.

وإنّ معارضة الدول الاستعمارية العظمى بقيادة بريطانيا للحملة المصرية وما تُمثّله مصر من قوّة ناهضة في المشرق العربي بإمكانياتها القادرة على سدّ الفراغ الذي تركته الدولة العثمانية وانحيازها للأخيرة وإصرارها على عودتها لحكم بلاد الشام وإجبار الجيش المصري على الانسحاب يُجسِّد أهدافها البعيدة المدى التي كانت وما زالت تحرص على منع قيام أيّ قوة تعمل على نهضة المنطقة وتقدمها وازدهارها والتي لا بُدّ من الوقوف في وجه مشاريعها الاستعمارية في هذه المنطقة الحيوية من العالم والتي أخذت أهميتها بالازدياد مع اكتشاف الذهب الأسود بكميات ضخمة في النصف الأول من القرن العشري، وازدياد الطلب على الطاقة في أسواقها الاستهلاكية، وتحوّل الأسواق العربية إلى أسواق رائجة مربحة للسلع والبضائع الأجنبية بمرور الزمن.

 وعملاً بالإستراتيجية الاستعمارية البعيدة المدى رأت بريطانيا بالدولة العثمانية عقبة صعبة أمام مشاريعها بعد أنْ تنامت قوتها العسكرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع العشرين نتيجة للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة التي قامت بها وعقد تحالفاتها العسكرية مع ألمانيا والنمسا. وبالتّالي بات عليها تقويضها بشتّى الطرق والوسائل وهو ما أنفذته من خلال تحريض المعارضة العربية على الثورة وزحف جيوشها في العمليات العسكرية التي خاضتها خلال الحرب العالمية الاولى 1914- 1918 في جبهتي العراق والشام وإعلان تصريح بلفور وتعهدها الصريح أمام عصبة الامم 1922 بفرض انتدابها على فلسطين وتهيئة جميع الظروف المناسبة فيها لإقامة الوطن القومي اليهودي وهو ما تحقّق على أرض الواقع فور نهاية الانتداب عصر يوم 14/5/1948 بإعلان قيام دولة إسرائيل.

ومِمّا لا شكّ فيه أنّ المعارضة الأجنبية للحكم المصري لبلاد الشام قد استمرت، وذلك بالرّغم من التسهيلات التي منحها لها لمسايرتها ولو إلى حين ومشاريع التحديث والإصلاحات التي عكف على تنفيذها ببرامجها العصرية المستمدّة من النُّظم الأوروبية وفي مقدّمتها فرض نظام الحكم المركزي وإقرار المساواة بين جميع الطوائف في الحقوق والواجبات ونزع الأسلحة غير المرخصة وتجريد الزعامات المحلية الإقطاعية من امتيازاتها، وإلغاء ضريبة الغفارة التي يدفعها الحجاج والزوار الأجانب مقابل النقل والحماية على الطرق المؤدية من والى مدينة القدس، وعلى وجه التحديد الطريق الواصلة بين ميناء يافا حيث ينزل الحجاج والزوار. وكان امتيازها بيد أسرة آل أبو غوش في قرية العنب. وطريق القدس-أريحا-نهر الأردن حيث يقوم المغطس وكان بيد آل عريقات في قرية أبو ديس. وبلغت ذروتها في منح بريطانيا امتياز فتح قنصلية لها في مدينة القدس1839 والتي تُعَدّ أوّل قنصلية أجنبية تفتح أبوابها فيها والسماح لعدد من الرعايا الأجانب وموظفي الهيئات القنصلية والتجارية العاملة في السواحل بتملك الأراضي والمسقفات وبناء المقرّات والمكاتب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

  يستعرض الدكتور جوني في كتابه لما تطرّق له أسد رستُّم في تقديمه للمجلدات الأربعة إلى  كيفية عرض مضامين الملفات المحفوظة في قصر عابدين، بحيث قدّم عن كلّ ملف ملخصًا في صفحة ز من المجلد الأوّل. ونصح من يريد التعمُّق والتفصيل الرجوع إلى الأصل وأسماها بيان بوثائق الشام عام1940م وتبدأ وثائق الشام في المحفوظات الملكية بعام1235هـ/1810م. بمعنى آخر، فإنّ الوثائق التي وجدها رستم تخصُّ الشام في فترة محمد علي باشا تعود إلى عام 1225ه/1810م أيّ قبل انطلاق الحملة بنحو عقدين من الزمان وهو ما يعكس العلاقات المصرية الشامية، بصرف النظر عن طبيعتها.

إنّنا نرى أنّ دراسة القدس عبر مئات بل آلاف من الكتب بلغات مختلفة تطرقت إلى مواضيع شتّى في التاريخ والسياسة والاجتماع ومعالم وغيرها هي في حدّ ذاته غِنى للمكتبة العربية عمومًا. لكنّ الدراسات التي تطرّقت إلى فترة الحكم المصري للبلاد السورية، وخاصة للقدس وتعامل هذا الحكم مع قضايا القدس ومواطني القدس وقيادات القدس ومناطقها، قليلة جدًّا.

بناء عليه، رأينا الاستعانة بالمحفوظات الملكية التي نشرها رستُّم، خاصّة تلك المتعلقة بالقدس وبعض مناطقها، لتكوين صورة عن أحوالها في الفترة الزمنية التي نحن بصددها، وللتعرّف على أحوالها المعيشية والإدارية والعسكرية وتدخُّل الدول الأجنبية وتركيبة سكانها وتقسيم أحيائها، وتطورها ونموها. وفي حقيقة الأمر أنّ الحكم المصري اضطر إلى التعامل مع واقع القدس بكلّ تعقيداته ومركباته الدينية والطائفية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولم يكن هذا بالأمر السهل على حكم وجدَ نفسه في صراع شديد ومرير مع قوى داخلية ثائرة، أيّ القوى المحلية المتمرِّدة، لأنّ هذه القوى اعترفت بالحكم المصري ثمّ تمردت عليه، وأبرزها ثورة القدس في عام 1834. وخارجية ضاغطة عليه لجني مكاسب ذاتية وتحسين مكانتها في القدس وغيرها من مناطق الشرق.

إنّها فترة مثيرة للإهتمام لكونها قصيرة، كما أشرنا، ولكونها متفاعلة مع الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية، وأيضًا لكونها شكلت مُنعطفًا مهما في تحوّل إطلاق القدس من مخبئها لتعود وتتبوأ مكانتها التي تستحقها.

تكونت الدراسة من قسمين أساسيين؛ الأوّل عبارة عن فصول الدراسة بالاعتماد على المحفوظات. والثاني ملحق جمعنا فيه كلّ ما أوردته المحفوظات من مراسلات وتقارير ووثائق عن القدس. وهذه موزعة في أربعة مجلدات. وقمنا في الملحق بإضافة تعليقات وتفسيرات في الحواشي لعدد من المصطلحات والمفاهيم والأعلام التي رأينا من المناسب شرحها للقارئ لتسهيل عملية فهمه لنصوصها، لكونها كُتِبت بلغة ذاك العصر حيث تعرّضت إلى ضعف في التعابير والتراكيب. وعملنا هذا، أيّ إضافة التعليقات والتفسيرات دون إلحاق أيّ تغيير من شأنه أن يُشوّش المحفوظات الخاصة بالقدس.

واستبقنا الدراسة بمدخل مُسهب أوضحنا من خلاله مشهدية القدس عشية وخلال الفترة الزمنية التي نحن بصدد التطرق إليها ومعالجتها.

وباعتبارنا أنّ وثائق المحفوظات والتقارير الواردة فيها تُشكِّل منبعًا ومصدرًا رئيسيًا لدراسة تلك الحقبة لكونها صدرت في الوقت ذاته الذي كانت تتفاعل فيه الأحداث وتتكون فيها القرارات.

كُتِبت أبحاث ودراسات كثيرة عن محمد علي باشا وفترة حكمه في مصر على وجه الخصوص، إلّا أنّنا لمسنا تكرارًا كبيرًا ومستمرًّا لمعلومات ومعطيات ورؤى ذات صلة بالفترة ذاتها.

أمّا مراجع تلك الفترة فقليلة ومحدودة فيما يتعلق بالقدس، لذا فإنّ المحفوظات تزودنا بالمعلومات الأساسية التي تقودنا إلى دراسة القدس وتاريخها وتطورها ونموها. واعتمدنا على المحفوظات كمصادر أولية وأساسية تساعدنا في فهم وتحليل الفترة التي نحن بصددها، وفي الوقت ذاته تؤسّس لنا رؤى لمزيد من الربط مع أحداث وتحرّكات سياسية أخرى تمّت في المنطقة (إقليميًّا) وعلى الصعيد الدولي أيضًا.

وللإشارة، فإنّ المحفوظات برُمّتها عبارة عن تقارير ومتابعات يومية أو أسبوعية أو في فترات محدّدة كان ينقلها ابراهيم باشا ومعاونوه إلى محمد علي باشا في مصر، ومراسلات الباشا مع ابنه ومع معاونيه لتسيير دفة الحكم يوميا وبدقة، والتعاطي مع قضايا خطيرة ومركزية وجوهرية تفرض معالجة ومتابعة.

لذا، اعتبرنا أنّ المحفوظات مرجعًا مهمًّا للتعامل مع فترة الحكم المصري، ورأينا تحديد دراستنا في هذه المحفوظات حصريًا، عِلمًا أنّ هناك الأوراق العربية الموجودة في مكتبات الجامعة الامريكية والجامعة اليسوعية وعدد من المكتبات الخاصّة في لبنان وسوريا وقام بجمعها الدكتور أسد رستُّم، إلاّ أنّها كلّها تتعاطى مع الشأن العام في سوريا، ومع بعض قضايا القدس.

أمّا المحفوظات فخصّت القدس بمساحة جيّدة لا بأس بها من الاهتمام والجدية، وبالتالي دفعت نحو مزيد من الحاجة إلى دراستها وفهم ما ورائها. وبناء عليه ألحقنا الدراسة بعدد كبير من المحفوظات الملكية المصرية ـ نصًّا وحرفًا ـ لتتاح الفرصة أمام القارئ والمهتم الاطلاع عليها والاستفادة منها.

ومِمّا لا شك فيه أنّ الخطوة الموفّقة التي خطاها الدكتور جوني منصور في اختيار موضوع الدراسة ومعالجتها لا بُدّ وأنْ تفتح الباب على مصراعيه أمام الباحثين لدراسة المدن الشامية بعامّة والفلسطينية بخاصّة بصورة مُعمّقة ومُفَصّلة من خلال ما صدره رستم عام 1940 أو ملفاتها الأصلية المفصّلة والتي ما تزال محفوظة في دور الأرشيف

باحثة في التاريخ الحديث والمعاصر



Comentarios


bottom of page