القدس ـ “راي اليوم”:
صدر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت في يناير 2022، دراسة معنونة ب” القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية في الفترة بين 1908-1948، للباحثة الدكتورة الفلسطينية نائلة الوعري، وجاء الكتاب في 590 صفحة، من القطع الكبير. الكتاب ملحق بخرائط ووثائق تاريخية وصور تؤرخ لفترة الدراسة وفهارس للمواقع والأعلام، واستغرق العمل به أكثر من أربع سنوات.
الكتاب وثيقة تاريخية مهمة تضاف الى أعمالي السابقة التي انجزتها خلال عقدين من الزمان في إطار مسيرة الكتابة التاريخية المتخصصة التي أقوم بها في تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر عامة ومدينة القدس خاصة.
هذه الدراسة اعتمدت في مضامينها على تفسير مفهوم العاصمة (القدس) في تلك الفترة الزمنية المهمة من تاريخ فلسطين، حيث بدأت الملامح الأولى لِتقَدُّم مدينة القدس نحو مركز الريادة السياسية والروحية معتمدةً على الشواهد التاريخية والمصادر والمراجع المتنوعة التي تثبت ذلك. فقد شهدت مدينة القدس في تاريخها الحديث والمعاصر مجموعة كبيرة من التحوُّلات والتبدُّلات والتطوُّرات المادية منها، والمعنوية، التي أسهمت في رسم وتكوين منجزاتها الثقافية والنهوض برسالتها الحضارية السامية بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، وما تزال تواصل مسيرتها الريادية إلى الأمام، وتدخل الألفيَّة الثالثة بإرادة قوية وعزيمة لا تلين، وبتحدٍّ صارخ للغطرسة الصهيونية التي عملت كل ما في وسعها؛ لإنفاذ مشروعها الاستعماري على أراضيها، مدعومةً بالقوى الاستعمارية التي تعهدت بالرعاية والمؤازرة منذ انطلاق الحملة الصليبية السلمية عام 1831م وانتهجت أسلوب جديد من الغزو الاستعماري ليس “بقعقعة السلاح” وانما بالغزو الديني التبشيري والثقافي وبالتمدد والتغلغل الاستعماري وفتح باب الهجرة لليهود لتمكينهم من ارض فلسطين التاريخية والسيطرة على القدس بشقيها الغربي والشرقي واعتمادها عاصمة للكيان المحتل.
وقد ركَّزَت الدراسة جُلَّ اهتمامها بالبحث في المقومات الحضارية التي استندت إليها مدينة القدس وأهَّلتها لاحتلال مكانة الصدارة بين المدن الفلسطينية وتوليها دفَّة القيادة كمركز إداري متقدم وعاصمة سياسية ما بين 1908- 1948م، وفي مجملها تعكس حجم التحول السياسي الذي انتاب مسيرتها وباتت تَجْمَعُ في تكوينها ما بين المركزية الإدارية والسياسية والرمزية الروحية، وانطلقت في حدودها الزمنية من عودة الحياة الدستورية في الدولة العثمانية المجمدة منذ عام 1876م من جانب السلطان عبد الحميد الثاني وإجراء أول انتخابات برلمانية عام 1908م وبانتهاء فترة الحكم العثماني ورحيله عن مدينة القدس بتاريخ 9/12/9117م تابعت الدراسة مسيرة القدس إبان الاحتلال البريطاني ودخول الجنرال اللنبي المدينة بتاريخ 1917/12/11غازياً ومحتلاً ومعلناً انتهاء الحروب الصليبية.
وقد تم عرض مسيرة مدينة القدس وما امتلكته من مقومات: حضارية، وسياسية، ودينية، تميَّزت بها على بقية المدن المنتشرة في المناطق الوسطى والجنوبية من بلاد الشام، وأسهمت بارتقائها إلى عاصمة سياسية وروحية في التاريخ الحديث والمعاصر، وجاءت الدراسة في تسعة فصول وارفقت بالنتائج التي توصلت اليها الدراسة، وأثبتت مكانة القدس كعاصمة سياسية وروحية للعالم .
الفصول
خُصِّصَ الفصل الأول للموقع الجغرافي الذي انفردت به مدينة القدس عن غيرها من المدن الشامية الجنوبية والذي ادرج تحت اسم “حاضنتها الجغرافية” ، وتعتبر حجر الزاوية الذي يُعتَد به عند تأسيس المدن والعواصم، ويُشْتَرَط فيها جمال طبيعتها وسهولة ويسر اتصالها وتواصلها مع المقاطعات التابعة لها ؛ إذا ما تعرضت لخطر داهم لكونها مركز القيادة والتحكم والهيئات الإدارية الرسمية المدنية والعسكرية، علاوةً على المؤسسات الأهلية الكبرى التي تستظل بظلها، وتم التركيز فيه على مسألة التسمية، والموقع، والموضع، والحدود المادية والمعنوية التي أحيطت بها، والتضاريس، وفعالياتها الميدانية.
وجاء الفصل الثاني لمناقشة “التحصينات” التي تمتعت بها مدينة القدس العاصمة الرائدة، وهي من الخصوصيات التي حرص الإنسان أن تتوافر في مواقعه المأهولة البدوية والريفية والمدنية منذ أن شيَّدَها على الأرض، وأكد عليها بصورة لافتة عند إقامة الحواضر والعواصم؛ كي يتمكن من خلالها من وقف زحف المعتدين وصد المهاجمين وحماية سكانها، ومقدراتها الاقتصادية والاجتماعية، ومقراتها الحكومية بصفتها مراكز القيادة والتحكم.
أما الفصل الثالث تم فيه تحليل النسيج العمراني لعاصمة فلسطين وهي الخصوصية المهمة التي تتميز بها الحواضر والعواصم عن غيرها من المدن، بصرف النظر عن البدايات الأولى التي انطلقت منها نواتها والغايات والأهداف التي بُنِيَتْ من أجلها، وتم وضعه تحت عنوان” نشاطها العمراني” ولا نظن أن هناك مدينة فلسطينية قد تقدمت في نشاطها العمراني على مدينة القدس العاصمة، فظلت رائدة المدن الفلسطينية في هذا المسار، وهو ما تطلب إقامة دائرة خدمات متقدمة للسهر على تخطيط البناء والنظافة والإنارة والمرور والمهن وغيرها من الخدمات، حتى تظهر بمظهر لائق في أفئدة أهلها وعيون زوارها وحجاجها، وقام على إدارتها بلدية القدس التي تأسست عام 1863م، وتعد ثاني مجلس بلدي يُشكَّل في الإمبراطورية العثمانية بعد إسطنبول مباشرة.
الفصل الرابع اقترن بدراسة وتحليل النسيج السكاني والذي تم عرضه تحت عنوان “سكانها”، وتم التركيز فيه على حركة النمو السكاني التي انتابت القدس العاصمة؛ نتيجةً لسيادة الأمن والاستقرار وارتفاع معدلات الولادة وانخفاض الوفيات والهجرة الوافدة، بسبب المجاورة في رحاب الأماكن الدينية المقدسة، وحركة التغلغل الاستعمارية، والمقاومة الشعبية للاستعمار، واتساع سوق العمل والخدمات الجاذبة للهجرة الوافدة من المواقع المختلفة، وما كونته من بيانات سكانية جعلها رائدة المواقع الفلسطينية
الفصل الخامس تتبع تشكيلات مدينة القدس الإدارية ودورها في دفع المكانة الريادية للمدينة إلى الأمام، ويتعلق بتشكيلاتها الإدارية والقوى التي مارست السيادة أو صاحبة الولاية الشرعية عليها، وتم وضعه تحت عنوان: “تشكيلاتها الإدارية وسيادتها” وركزت في ذلك على التشكيلات الإدارية العثمانية، والبريطانية، والأردنية، بينما اتسعت مجموعة القوى الرسمية وغير الرسمية التي مارست السيادة عليها، وشملت العثمانية، والبريطانية، والفلسطينية، والأردنية، والدولية.
واستعرض الفصل السادس مستويات الإدارة التي قامت بالإشراف على مدينة القدس والمناطق التابعة لها في فلسطين وشرق الأردن من خلال مراكز القيادة والتحكم المنتشرة داخل حدود بلديتها في الفترة الواقعة ما بين 1908- 1948م وأطرافها، وهي إحدى المقومات الرئيسية التي أهَّلَته لاحتلال مكانة الريادة والتقدم وتولي مكانتها المرموقة في أوساط المدن المحلية والإقليمية والدولية؛ بل وكانت من الشواهد على تقدمها وريادتها، وهو ما استحقت معه لقب عاصمة فلسطين السياسية وعاصمة العالم الروحية.
ولم يُغْفِل هذا الفصل الإدارة الفلسطينية المحلية في العهد العثماني ودورها في دفع المدينة نحو الريادة والازدهار، والمجلس الإسلامي الأعلى برئاسة الحاج أمين الحسيني والذي تَحوَّل من مؤسسة تُعْنَى بالشؤون الشرعية الخاصة بالمحاكم الشرعية والأماكن الدينية المقدسة، إلى حكومة وطنية – إنْ جاز لنا التعبير- تقود الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية.
وخُصِّصت الفصول الثلاث الأخيرة ؛ السابع والثامن والتاسع لعرض المواقف المحلية الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية من احتلال مدينة القدس مكانة الريادة السياسية لتصبح عاصمة البلاد الفلسطينية ففي الفصل السابع تم عرض وتحليل ومناقشة الموقف المحلي وموقف الشعب الفلسطيني في دياره المدنية والريفية والبدوية والمهجر من تقدم المدينة وإجماعه على مكانتها الحضارية وتقدمها كعاصمة سياسية وروحية لفلسطين، فجاء الفصل تحت عنوان: “إجماعها الشعبي المحلي” ودوره في دفعها لاحتلال مكانة الريادة في قائمة المدن الفلسطينية؛ بل والحفاظ عليها بصفتها جزءاً لا يتجزأ من العقيدة ورسالتها السامية ورمزيتها الوطنية والسياسية في مواجهة القوى الاستعمارية الطامعة، وغالباً ما جاء على هيئة استفتاء شعبي عُبِّرَ عنه في الوطن والمهجر بالعديد من الوسائل والطرق، وفي مقدمتها النزعة الفطرية، وشد الرحال والسفر، والأعطيات والتبرعات العينية والنقدية، والانتخابات، والحشد، والمواجهة .
الفصل الثامن رصد مسألة الإجماع العربي والإسلامي “ودوره في دفع المدينة نحو الريادة والمحافظة على مستوياتها، وتم التركيز فيه على مجموعة الطرق والوسائل التي عَبَّر فيها العرب والمسلمون على الصعيدين الرسمي والشعبي عن تعلقهم بمدينة القدس، وما قاموا به من إجراءات تعمل على دفعها نحو مركز الريادة والتقدم والازدهار والحفاظ على مكانتها ورمزيتها السياسية كعاصمة سياسية في فلسطين والسير بها جنباً إلى جنب مع سموها الروحي واتخاذها عاصمة روحية عالمية، فشدوا إليها الرحال وتضامنوا معها وآزروها وأغدقوا عليها الأوقاف المنقولة وغير المنقولة والتبرعات والهبات العينية والنقدية، وفتحت بعض حكومات الدول العربية والإسلامية قنصلياتها، وأرسلت بقناصلها المعتمدين لتمثيلها دبلوماسياً لدى الحكومة العثمانية والانتداب البريطاني من بعدها، وتمثَّل ذلك بالقنصلية المصرية والعراقية والسعودية والسورية واللبنانية والإيرانية والتركية والمكتب التجاري الهندي، ولم يتوانَ العرب والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عن نصرتها والدفاع عنها مادياً ومعنوياً، والاستجابة لنداءات استغاثتها كلما اقتضى الأمر.
أما الفصل التاسع والأخير فخُصِّصَ عرضه لمناقشة الموقف الدولي وعلاقاته بالدولة العثمانية وحكومة الانتداب البريطاني والمجلس الاسلامي الأعلى ودورهم في اعتماد القدس عاصمة سياسية وروحية في فلسطين، وإصرار الدول العظمى على إيجاد موطئ قدم لها في المدينة العاصمة، وهو ما أعطاها بعداً عالمياً في المحافل الدولية، وتم عرض هذا الفصل تحت عنوان: “إجماعها الدولي” الذي استندت فيه مدينة القدس للارتقاء إلى مكانة الريادة السياسية في قائمة المدن المنتشرة في المقاطعات الوسطى والجنوبية من بلاد الشام، وركز في ذلك على مجموعة التطورات والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جرت على أراضيها والمقاطعات الملحقة بها، وعكست إلى حدٍّ كبير مدى الاهتمام الدولي التي حظيت به المدينة وتتمثل في الأطماع الاستعمارية التي انطلقت عجلتها دون توقف ابتداءً من عام 1831م.
واستُهْدِفَت المدينة والمناطق التابعة لها عبر فتح الامتيازات، وشراء الأراضي، وإقامة المزارع والمقرات التجارية والقنصلية والمدارس والمشافي التبشيرية والبيوت والمساكن والمستوطنات الصهيونية، وتدفق سيل الهجرة والحجاج والزوار والبعثات العلمية والأثرية والدوائر الاستخبارية والتمثيل الدبلوماسي بفتح القنصليات ووكالاتها، وإن اعتراف المنظمات الدولية بما شهدته مدينة القدس من تقدم وريادة حَفَّزَهَا على فتح مقرات لها في أراضيها كالصليب الأحمر وعصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة ولجان التحقيق الدولية.
وباحتدام المقاومة الشعبية في مواجهة القوى الاستعمارية على أراضي مدينة القدس وانتشار أصدائها في كافة أنحاء العالم تضامنت مجموعات غير قليلة من أحرار العالم مع قضاياها العادلة، وشملت كافة المستويات والهيئات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبرلمانية والحزبية والاتحادات الطلابية، كما لا ننسى أن تسارع وتيرة الحركة الاقتصادية والنقل والسفر بين القدس والموانئ والمطارات العالمية قد دفع بالشركات الكبرى العابرة للقارات إلى فتح مكاتب لها في مدينة القدس بهدف جني أكبر قدر من الربح من خلال الحركة النشطة التي باتت تربط بين عواصم ومطارات العالم وميناءي يافا وحيفا، حيث يتدفق سيل الحجاج والزوار وفعاليات النقل والسفر والتجارة المختلفة.
النتائج
وقد جاءت النتائج التي توصلت لها في هذه الدراسة لتبشر بأن مدينة القدس في فترة الدراسة كانت ولا زالت تحظى بأوسع استفتاء “ عربي واسلامي ” على مكانتها السياسية والدينية واهمية اتخاذها عاصمة سياسية، وشارك في ذلك ملايين العرب والمسلمين في ديارهم والمهجر، وعبروا عن تطلعاتهم الروحية والقومية، وما هو راسخ في خلدهم نحوها بشد الرحال والمجاورة في أكنافها والإجزال في رصد الأوقاف التبرعات والأعطيات المنقولة وغير المنقولة والتمثيل الدبلوماسي لدى حكومتها المحلية العثمانية وحكومة الانتداب، والتنادي لتلبية استغاثتها كلما دعاهم الواجب، مهما بلغت التضحيات، ولم يتركوها وشأنها تلاقي مصيرها المحتوم؛ مهما رُوِّجَت الأكاذيب وبُثَّت الإشاعات الصادرة عن الطابور الخامس المتواطئ مع الأعداء والمؤسسة الاستعمارية القاضية بأن قضية القدس والمقدسات والعاصمة السياسية قضية محلية
خلاصة القول هنا وحسب السرد التاريخي لمكانة المدينة الدينية والروحية في هذا الكتاب تعتبر مدينة القدس المدينة الوحيدة في العالم التي يجري الإجماع الرسمي والشعبي على ريادتها، ويستحوذ على ما يقرب من 60% من سكان العالم، وهي المدينة الوحيدة في العالم التي يقدسها أصحاب الديانات السماوية الثلاث في آنٍ واحد، مما استحقت معها اعتمادها عاصمة فلسطين السياسية والعالم الروحية، وقد عَبَّرَت الدول الأجنبية بمستوياتها الرسمية والشعبية عن إجماعها نحو القدس وريادتها بعدد من الطرق والوسائل وتتمثل في النزعة الاستعمارية والاطماع الصهيونية وتأسيس القنصليات في القدس في مرحلة مبكرة ومبعوثي الدول لدى الحكومة العثمانية وإسطنبول والحكومة البريطانية في القدس ولندن، واعتراف أحرار العالم والمنظمات الدولية بما أنجزته من تقدم وريادة؛ ما حفزها على فتح مقرات لها في أراضيها “ داخل المدينة ” كالصليب الأحمر” “وعصبة الأمم” “ومنظمة الأمم المتحدة “ولجان التحقيق الدولية والشركات العابرة التي اتخذت من مدينة القدس مراكز وفتحت لها فروع فيها ..
وهكذا استحقت هذه المدينة العظيمة لقب “القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية “
بنت القدس
14 فبراير 2022
Comments